فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.سبب النزول:

.قال الفخر:

في سبب النزول وجوه:
الأول: لما نزل قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاء الذين أُحصِرُواْ في سَبِيلِ الله} بعث عبد الرحمن بن عوف إلى أصحاب الصفة بدنانير، وبعث علي رضي الله عنه بوسق من تمر ليلًا، فكان أحب الصدقتين إلى الله تعالى صدقته، فنزلت هذه الآية فصدقة الليل كانت أكمل.
والثاني: قال ابن عباس: إن عليًا عليه السلام ما كان يملك غير أربعة دراهم، فتصدق بدرهم ليلًا، وبدرهم نهارًا، وبدرهم سرًا، وبدرهم علانية، فقال صلى الله عليه وسلم: «ما حملك على هذا؟ فقال: أن استوجب ما وعدني ربي، فقال: لك ذلك» فأنزل الله تعالى هذه الآية.
والثالث: قال صاحب الكشاف: نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين تصدق بأربعين ألف دينار: عشرة بالليل، وعشرة بالنهار، وعشرة في السر، وعشرة في العلانية والرابع: نزلت في علف الخيل وارتباطها في سبيل الله، فكان أبو هريرة إذا مرّ بفرس سمين قرأ هذه الآية الخامس: أن الآية عامة في الذين يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة تحرضهم على الخير، فكلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ولم يؤخروها ولم يعلقوها بوقت ولا حال، وهذا هو أحسن الوجوه، لأن هذا آخر الآيات المذكورة في بيان حكم الإنفاقات فلا جرم ذكر فيها أكمل وجوه الإنفاقات، والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

رُوي عن ابن عباس وأبي ذَرّ وأبي أُمَامة وأبي الدرداء وعبد الله بن بشر الغافقيّ والأوزاعيّ أنها نزلت في علف الخيل المربوطة في سبيل الله.
وذكر ابن سعد في الطبقات قال: أخبرت عن محمد بن شعيب بن شابور قال أنبأنا سعيد بن سِنان عن يزيد بن عبد الله بن عريب عن أبيه عن جدّه عَريب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله تعالى: {الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بالليل والنهار سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} قال: «هم أصحاب الخيل» وبهذا الإسناد قال قال رسول صلى الله عليه وسلم: «المنفق على الخيل كباسط يده بالصدقة لا يقبضها وأبوالُها وأرواثُها عند الله يوم القيامة كَذَكِيّ المسك» ورُوي عن ابن عباس أنه قال: نزلت في عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، كانت معه أربعة دراهم فتصدّق بدرهم ليلًا وبدرهم نهارًا وبدرهم سرًّا وبدرهم جهرًا؛ ذكره عبد الرزاق قال: أخبرنا عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس.
ابُن جُريج: نزلت في رجل فعل ذلك، ولم يُسَمّ عليًّا ولا غيرَه.
قال قتادة.
هذه الآية نزلت في المنفقين من غير تبذير ولا تقتير. اهـ.

.قال ابن عطية:

والآية وإن كانت نزلت في علي رضي الله عنه، فمعناها يتناول كل من فعل فعله وكل مشاء بصدقته في الظلم إلى مظنة ذي الحاجة وأما علف الخيل والنفقة عليها فإن ألفاظ الآية تتناولها تناولًا محكمًا، وكذلك المنفق في الجهاد المباشر له إنما يجيء إنفاقه على رتب الآية. وقال ابن عباس رضي الله عنه: كان المؤمنون يعملون بهذه الآية من قوله: {إن تبدوا الصدقات} [البقرة: 271] إلى قوله: {ولا هم يحزنون} [البقرة: 274] فلما نزلت براءة بتفصيل الزكاة قصروا عليها. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الألوسي:

{الذين يُنفِقُونَ أموالهم بالليل} أي يعممون الأوقات والأحوال بالخير والصدقة، فالمراد بالليل والنهار جميع الأوقات كما أن المراد بما بعده جميع الأحوال، وقدم الليل على النهار والسر على العلانية للإيذان بمزية الإخفاء على الإظهار. اهـ.

.قال ابن كثير:

هذا مدح منه تعالى للمنفقين في سبيله، وابتغاء مرضاته في جميع الأوقات من ليل أو نهار، والأحوال من سر وجهار، حتى إن النفقة على الأهل تدخل في ذلك أيضًا، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسعد بن أبي وقاص- حين عاده مريضًا عام الفتح، وفي رواية عام حجة الوداع-: «وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا ازددت بها درجة ورفعة، حتى ما تجعل في في امرأتك».
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر وبَهْز قالا حدثنا شعبة، عن عدي بن ثابت قال: سمعت عبد الله بن يزيد الأنصاري، يحدث عن أبي مسعود، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة يحتسبها كانت له صدقة» أخرجاه من حديث شعبة، به. اهـ.

.قال الفخر:

إنها تدل على أن أهل الثواب لا خوف عليهم يوم القيامة، ويتأكد ذلك بقوله تعالى: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} [الأنبياء: 103]. اهـ.

.قال ابن عاشور:

أَدخل الفاء في خبر الموصول للتنبيه على تسبّب استحقاق الأجر على الإنفاق لأنّ المبتدأ لما كان مشتملًا على صلة مقصود منها التعميم، والتعليل، والإيماء إلى علّة بناء الخبر على المبتدأ وهي ينفقون صَحّ إدخال الفاء في خبره كما تدخل في جواب الشرط؛ لأنّ أصل الفاء الدلالة على التسبّب وما أدخلت في جواب الشرط إلاّ لذلك. والسرّ: الخفاء. والعلانية: الجهر والظهور. وذكر عند ربّهم لتعظيم شأن الأجر.
وقوله: {ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} مقابل قوله: {وما للظالمين من أنصار} [البقرة: 270] إذ هو تهديد لمانعِي الصدقات بإسلام الناس إياهم عند حلول المصائب بهم، وهذا بشارة للمنفقين بطيب العيش في الدنيا فلا يخافون اعتداء المعتدين لأنّ الله أكسبهم محبة الناس إياهم، ولا تحلّ بهم المصائب المحزنة إلاّ ما لا يسلم منه أحد ممّا هو معتاد في إبانه.
أما انتفاء الخوف والحزن عنهم في الآخرة فقد علم من قوله: {فلهم أجرهم عند ربهم}.
ورُفع خوف في نفي الجنس إذ لا يتوهم نفي الفرد لأنّ الخوف من المعاني التي هي أجناس محضة لا أفراد لها كما تقدّم في قوله تعالى: {لا بيع فيه ولا خلة} [البقرة: 254]، ومنه ما في حديث أم زرع: «لا حَرٌ ولا قرٌ ولا مَخَافَةٌ ولا سَآمَةٌ». اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)}.
التفسير: لما رغب في الإنفاق وذكر أن منه ما يتبعه المن والأذى، ومنه ما لا يتبعه ذلك، وشرح ما يتعلق بكل من القسمين وضرب لكل واحد مثلًا، ذكر بعد ذلك أن المال الذي أمر بإنفاقه في سبيل الله كيف يجب أن يكون فقال: {أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا} أي من طيبات ما أخرجنا، فحذف لدلالة الأول عليه. عن الحسن: أن المراد من هذا الإنفاق الفرض بناء على أن ظاهر الأمر للوجوب، والإنفاق الواجب ليس إلا الزكاة وسائر النفقات الواجبة، وقيل: التطوع لما روي عن علي والحسن ومجاهد أن بعض الناس كانوا يتصدقون بشرار ثمارهم ورذالة أموالهم فأنزل الله هذه الآية.
عن ابن عباس: جاء رجل ذات يوم بعذق حشف فوضعه في الصدقة لأهل الصفة على حبل بين أسطوانيتن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: «بئسما صنع صاحب هذا» فنزلت. وقيل: يشمل الفرض والنفل، لأن المفهوم من الأمر ترجيح جانب الفعل على الترك فقط، ويتفرع على قول الوجوب وجوب الزكاة في كل مال يكسبه الإنسان، فيشمل زكاة التجارة وزكاة الذهب والفضة وزكاة النعم وزكاة كل ما ينبت من الأرض، إلا أن العلماء خصصوها بالأقوات لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «الصدقة في أربعة: في التمر والزبيب والحنطة والشعير وليس فيما سواها صدقة» فهذا الخبر ينفي الزكاة في غير الأربعة، لكن ثبت أخذ الزكاة من الذرة وغيرها بأمر صلى الله عليه وسلم فعلم وجوب الزكاة في الأقوات دون غيرها.
ولا يكفي في وجوب الزكاة كون الشيء مقتاتًا على الإطلاق، بل المعتبر حالة الاختيار لا وقت الضرورة ومثله الشافعي بالقت وحب الحنظل وسائر البذور البرية، وشبهها ببقرة الوحش لا زكاة فيها لأن الناس لا يتعهدونها. وأيضًا لا تجب الزكاة في القوت ما لم يبلغ خمسة أوسق وبه قال مالك وأحمد لرواية أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس فيما دون خمسَة أوسق صدقة» وقال أبو حنيفة: يجب العشر في القليل والكثير استدلالًا بعموم الآية. وتفصيل الكلام في الأموال الزكوية وكيفية إخراجها ونصاب كل منها مشهور مذكور في الفروع، فلذلك ولطولها لم نشرع فيها. وما المراد بالطيب في الآية؟ قيل: الجيد فيكون المراد بالخبيث الرديء لما مر في سبب النزول أنهم كانوا يتصدقون برذالة أموالهم فنهوا عن ذلك، ولأن المحرم لا يجوز أخذه بالإغماض وبغيره، والآية دلت على جواز أخذ الخبيث بالإغماض، وعن ابن مسعود ومجاهد: أن الطيب هو الحلال والخبيث هو الحرام، والمراد من الإغماض هو المسامحة وترك الاستقصاء. والمعنى ولستم بآخذيه وأنتم تعلمون أنه محرم إلا أن ترخصوا لأنفسكم أخذ الحرام ولا تبالوا من أي وجه أخذتم المال من حلاله أو من حرامه، ويحتمل أن يراد ما يكون طيبًا من جميع الوجوه فيكون طيبًا بمعنى الحلال وبمعنى الجودة أيضًا، لأن الاستطابة قد تكون شرعًا وقد تكون عقلًا. واعلم أن المال الزكوي إن كان كله شريفًا وجب أن يكون المأخوذ منه كذلك، وإن كان الكل خسيسًا فلا يكلف صاحبه فوق طاقته ولا يكون خلافًا للآية لأن المأخوذ في هذه الحال لا يكون خبيثًا من ذلك المال وإنما الكلام فيما لو كان في المال جيد ورديء فحينئذٍ يقال للإنسان لا تجعل الزكاة من رديء مالك، ولا تكلف أيضًا جيده لقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: «اعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم وإياك وكرائم أموالهم» بل الواجب حينئذٍ هو الوسط. ثم إن قلنا: المراد من الإنفاق في الآية التطوع أو هو والفرض جميعًا، فالمعنى أن الله تعالى ندبهم إلى أن يتقربوا إليه بأفضل ما يملكونه قضاء لحقوق التعظيم والإخلاص، ومعنى {لا تيمموا الخبيث} لا تقصدوه. يقال: تيممته وتأممته كله بمعنى قصدته. ومحل {تنفقون} نصب على الحال، وقدم {منه} عليه ليعلم أن المنهي عنه هو تخصيص الخبيث بالإنفاق منه أي إذا كان في المال طيب وخبيث. ويحتمل أن يتم الكلام عند قوله: {ولا تيمموا الخبيث} ثم ابتدأ مستفهمًا بطريق الإنكار فقال: {منه تنفقون} وحالكم أنكم لا تأخذونه في حقوقكم إلا بالإغماض وهو غض البصر وإطباق جفن على جفن وأصله من الغموض وهو الخفاء. يقال للبائع: أًغْمِضْ أي لا تستقص كأنك لا تبصر. وأصله أن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عينيه كيلا يرى ذلك، فكثر حتى جعل كل مساهلة إغماضًا أي لو أهدي لكم مثل هذه الأشياء أخذتموها إلا على استحياء وإغماض، فكيف ترضون لي ما لا ترضونه لأنفسكم؟ ويحتمل أن يراد إلا إذا أغمضتم بصر البائع أي كلفتموه الحط من الثمن. عن الحسن: لو وجدتموه في السوق يباع ما أخذتموه حتى يهضم لكم من ثمنه. {واعلموا أن الله غني} عن صدقاتكم {حميد} محمود على ما أنعم من البيان والتكليف بما تحوزون به النعيم الأبدي، أو حامد شاكر على إنفاقكم كقوله: {فأولئك كان سعيهم مشكورًا} [الإسراء: 19] ثم إن الله تعالى لما رغب في أجود ما يملكه الإنسان أن ينفق، حذر عن وسوسة الشيطان فقال: {الشيطان يعدكم الفقر} أما الشيطان فيشمل إبليس وجنوده وشياطين الإنس والنفس الأمارة بالسوء. والوعد يستعمل في الخير والشر. قال تعالى: {النار وعدها الله الذين كفروا} [الحج: 72] ويمكن أن يكون استعماله في الشر محمولًا على التهكم مثل {فبشرهم بعذاب أليم} [آل عمران: 21] وأصل الفقر في اللغة كسر الفقار وقرئ الفقر بضمتين، والفقر بفتحتين. {ويأمركم بالفحشاء} يغريكم على البخل ومنع الصدقات إغراء الآمر للمأمور. والفاحش عند العرب البخيل. والتحقيق أن لكل خلق طرفين ووسطًا، فالطرف الكامل للإنفاق هو أن يبذل كل ماله في سبيل الله، والطرف الأفحش أن لا ينفق شيئًا لا الجيد ولا الرديء، والوسط أن يبخل بالجيد وينفق الرديء. فالشيطان إذا أراد نقله من الأفضل إلى الأفحش، فمن خفي حيلته أن يجره إلى الوسط وهو وعده بالفقر، ثم إلى الطرف وهو أمره بالفحشاء. وذلك أن البخل صفة مذمومة عند كل أحد فلا يمكنه أن يجره ابتداء إليها إلا بتقديم مقدمة هي التخويف بالفقر إذا أنفق الجيد من ماله، فإذا أطاعه زاد فيمنعه من الإنفاق بالكلية.
وربما تدرج إلى أن يمنع الحقوق الواجبة فلا يؤدي الزكاة ولا يصل الرحم ولا يرد الوديعة، فإذا صار هكذا ذهب وقع الذنوب عن قلبه ويتسع الخرق فيقدم على المعاصي كلها. ثم لما ذكر درجات وسوسة الشيطان أردفها بذكر إلهامات الرحمن فقال: {والله يعدكم مغفرة منه وفضلًا} فالمغفرة إشارة إلى منافع الآخرة والفضل إشارة إلى ما يحصل في الدنيا من الخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الملك ينادي كل ليلة: اللهم أعط منفقًا خلفًا وممسكًا تلفا» فالشيطان يعدكم الفقر في غد الدنيا، والرحمن يعدكم المغفرة في غد العقبى، ووعد الرحمن بالقبول أولى لأن الوصول إلى غد الدنيا مشكوك فيه، وغد العقبى مقطوع به. وعلى تقدير وجدان غد الدنيا فقد لا يبقى المال بآفة أخرى، وعند وجدان العقبى لابد من حصول المغفرة فإن الله تعالى لا يخلف الميعاد. ولو فرض بقاء المال فقد لا يتمكن صاحبه من الانتفاع به لخوف أو مرض أومهم بخلاف الانتفاع بما في الآخرة فإنه لا مانع منه. وبتقدير التمكن من الانتفاع بالمال فإن ذلك ينقطع ويزول بخلاف الموعود في الآخرة فإنه باق لا يزول. وأيضًا لذات الدنيا مشوبة بالآلام والمضار ألبتة، فلا لذة إلا وفيها ألم من وجوه كثيرة بخلاف لذات الآخرة فإنه لا نغص فيها ولا نقص. والمراد بالمغفرة تكفير الذنوب، والتنكير فيه للدلالة على الكمال والتعظيم لاسيما وقد قرن به لفظة منه فإن غاية كرمه ونهاية جوده مما يعجز عن إدراكها عقول الخلائق. ويحتمل أن يكون نوعًا من المغفرة وهو المشار إليه في آية أخرى {فأولئك يبدل الله سيآتهم حسنات} [الفرقان: 70] أو أن يجعل شفيعًا في غفران ذنوب إخوانه المؤمنين. وأما الفضل فيحتمل أن يراد به الفضيلة الحاصلة للنفس وهي ملكة الجود والسخاء، وذلك أن المال فضيلة خارجية وعدمه نقصان خارجي، وملكة الجود فضيلة نفسانية وملكة البخل رذيلة نفسانية، فمتى لم يحصل الإنفاق حصل الكمال الخارجي والنقصان الداخلي، وإذا حصل الإنفاق وجد الكمال الداخلي والنقصان الخارجي، فيكون الإنفاق أولى وأفضل. وأيضًا متى حصلت ملكة الإنفاق زالت عن النفس هيئة الاشتغال بنعيم الدنيا والتهالك في طلبها فاستنارت بالأنوار القدسية وهذا هو الفضل. وأيضًا مهما عرف من الإنسان أنه منفق كانت الهمم معقودة على أن يفتح الله عليه أبواب الرزق ولمثل ذلك من التأثير ما لا يخفى {والله واسع} كامل العطاء كافل للخلف قادر على إنجاز ما وعد {عليم} بحال من نفق ثقة بوعده وبحال من لم ينفق طاعة للشيطان. ثم نبه على الأمرالذي لأجله يحصل ترجيح وعد الرحمن على وعد الشيطان وهو الحكمة والعقل، فإن وعد الشيطان إنما ترجحه الشهوة والنفس. عن مقاتل: إن تفسير الحكمة في القرآن على أربعة أوجه:
أحدها: مواعظ القرآن {وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به} [البقرة: 231].
وثانيها الحكمة بمعنى الفهم {وآتيناه الحكم صبيًا} [مريم: 12] {ولقد آتينا لقمان الحكمة} [لقمان: 12].
وثالثها الحكمة بمعنى النبوة {وآتاه الله الملك والحكمة} [البقرة: 251].
ورابعها القرآن بما فيه من الأسرار {يؤتي الحكمة من يشاء}.
وجميع هذه الوجوه عند التحقيق ترجع إلى العلم.
فتأمل يا مسكين شرف العلم فإن الله تعالى سماه الخير الكثير {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا} والتنكير للتعظيم. وسمى الدنيا بأسرها قليلًا {قل متاع الدنيا قليل} وذلك أن الدنيا متناهية العدد، متناهية المقدار، متناهية المدة والعلوم، لا نهاية لمراتبها وعددها ومدة بقائها والسعادات الحاصلة منها. واعلم أن كمال الإنسان في شيئين: أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به. فمرجع الأول إلى العلم والإدراك المطلق، ومرجع الثاني إلى فعل العدل والصواب، ولذلك سأل إبراهيم صلى الله عليه وسلم {رب هب لي حكمًا} [الشعراء: 83] وهو الحكمة النظرية، {وألحقني بالصالحين} [الشعراء: 83] وهو الحكمة العملية. ونودي موسى عليه السلام {إنى أنا الله لا إله إلا أنا} وهو الحكمة النظرية ثم قال: {فاعبدني} [طه: 14] وهو العملية. وحكي عن عيسى عليه السلام أنه {قال إنّي عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيًا وجعلني مباركًا أينما كنت} [مريم: 30، 31] وكلها النظرية {وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيًا وبرًا بوالدتي ولم يجعلني جبارًا شقيًا} [مريم: 31، 32] وجميعها العملية. وقال في حق محمد صلى الله عليه وسلم: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} [محمد: 19] وهو النظرية ثم قال: {واستغفر لذنبك} [محمد: 19] وهو العملية. وقال في حق جميع الأنبياء {ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا} [النحل: 2].
وأنه الحكمة العلمية ثم قال: {فاتقون} [النحل: 2] وهو الحكمة العملية. فعلم من هذه الآيات وأمثالها أن كمال حال الإنسان في هاتين القوتين. والحكمة فعلة من الحكم كالنحلة من النحل. ورجل حكيم إذا كان ذا حجا ولب وإصابة رأي، فعيل بمعنى فاعل ويجيء بمعنى مفعول {فيه يفرق كل أمر حكيم} [الدخان: 4] أي محكم. وفي الآية دليل على أن جميع العلوم النظرية والأخلاق المرضية إنما هي بإيتاء الله تعالى. والذين حملوا الإيتاء على التوفيق والإعانة كالمعتزلة ما زادوا إلا أن وسعوا الدائرة إذ لابد من الانتهاء إليه أية سلكوا {وما يذكر إلا أولوا الألباب} الذين إذا حصل لهم الحكم والمعارف لم يقفوا عند المسببات، فلم ينسبوا هذه الأحوال إلى أنفسهم بل يرقون إلى أسبابها حتى يصلوا إلى السبب الأول. وأما المعتزلة فإنهم لما فسروا الحكمة بقوة الفهم ووضع الدلائل قالوا: هذه الحكمة لا تفيد بنفسها وإنما ينتفع بها المرء إذا تدبر وتذكر فعرف ماله وما عليه، وعند ذلك يقدم أو يحجم. ثم إنه تعالى نبه على أنه عالم بما في قلب العبد من نية الإخلاص أو الرياء، وأنه يعلم القدر المستحق من الثواب والعقاب على تلك الدواعي والنيات فلا يهمل شيئًا منها فقال: {وما أنفقتم من نفقة} لله أو للشيطان {أو نذرتم من نذر} في طاعة الله أو معصيته {فإن الله يعلمه} وتذكير الضمير إما لأنه عائد إلى ما وإما لأنه عائد إلى الأخير كقوله: {ومن يكسب خطيئة أو إثمًا ثم يرم به بريئًا} [النساء: 112] وهذا قول الأخفش، والنذر ما يلتزمه الإنسان بإيجابه على نفسه وأصله من الخوف كأنه يعقد على نفسه خوف التقصير في الأمر المهم عنده ومنه الإنذار إبلاغ مع تخويف. واعلم أن النذر قسمان: نذر اللحاج والغضب ونذر التبرر. أما الأول فهو أن يمنع نفسه من الفعل أو يحثها عليه بتعليق التزام قربة بالفعل أو الترك كقوله: إن كلمت فلانًا أو أكلت كذا أو دخلت الدار أو لم أخرج من البلد فللَّه علي صوم شهر أو صلاة أو حج أو إعتاق رقبة ثم إنه إذا كلمه أو أكل أو دخل أو لم يخرج فللعماء ثلاثة أقوال: أحدها يلزمه الوفاء بما التزم، والثاني: وهو الأصح أن عليه كفارة يمين لما روي أنه صلى الله عليه وسلم: «كفارة النذر كفارة اليمين»، والثالث: التخيير بين الوفاء وبين الكفارة. وأما نذر التبرر فنوعان: نذر المجازاة وهو أن يلتزم قربة في مقابلة حدوث نعمة أو اندفاع نقمة مثل إن شفى الله مريضي أو رزقني ولدا فللَّه علي أن أعتق رقبة أو أصوم أو أصلي كذا فإذا حصل المعلق عليه لزمه الوفاء بما التزم لقوله صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» ونذر التنجيز وهو أن يلتزم ابتداء غير معلق على شيء كقوله لله علي أن أصوم أو أصلي أو أعتق فالأصح أنه يصح ويلزم الوفاء به لمطلق الخبر. وما يفرض التزامه بالنذر إما المعاصي وإما الطاعات وإما المباحات. فالمعاصي كشرب الخمر والزنا ونذر المرأة صوم أيام الحيض ونذر قراءة القرآن في حال الجنابة لا يصح التزامها بالنذر لأنه لا نذر في معصية الله تعالى، ومن هذا القبيل نذر ذبح الولد أو ذبح نفسه. وإذا لم ينعقد نذر فعل المعصية فعليه أن يمتنع منه ولا يلزمه كفارة يمين، وما روي من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين» محمول على نذر اللجاج، وأما الطاعات فالواجبات ابتداء بالشرع كالصلوات الخمس وصوم رمضان لا معنى لالتزامها بالنذر معلقًا أو غير معلق، وكذا لو نذر أن لا يشرب الخمر ولا يزني، وإذا خالف ما ذكره فلا يلزمه الكفارة على الأصح، وأما غير الواجبات فالعبادات المقصودة وهي التي وضعت للتقرب بها وعرف من الشارع الاهتمام بتكليف الخلق بإيقاعها عبادة فتلزم بالنذر وذلك كالصوم والصلاة والزكاة والصدقة والحج والاعتكاف والإعتاق وكذا فروض الكفايات التي يحتاج فيها إلى معاناة تعب وبذل مال كالجهاد وتجهيز الموتى، ذكره إمام الحرمين- وفي الصلاة على الجنازة والأمر بالمعروف، وما ليس فيه بذل مال وكثير مشقة الأظهر اللزوم أيضا، وكما يلزم أصل العبادات بالنذر يلزم رعاية الصفة المشروطة فيها إذا كانت من المحبوبات كالصلاة بشرط طول القراءة أو الركوع أو السجود أو الحج بشرط المشي إذا جعلناه أفضل من الركوب وهو الأصح ولو أفرد الصفة بالالتزام.
والأصل واجب كتطويل الركوع والسجود أو القراءة في الفرائض، فالأشبة اللزوم لأنها عبادات مندوب إليها. وأما الأعمال والأخلاق المستحسنة كعيادة المريض وزيارة القادم وإفشاء السلام على المسلمين فالأظهر لزومها أيضًا بالنذر، وكذا تجديد الوضوء لأن كلها مما يتقرب بها إلى الله سبحانه، وقد رغب الشارع فيها. وأما المباحات التي لم يرد فيها ترغيب كالأكل والنوم والقيام والقعود فلو نذر فعلها أو تركها لم ينعقد نذره، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا قائمًا في الشمس فسأل عنه فقالوا: نذر أن لا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال صلى الله عليه وسلم: مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه ولو قال: لله عليّ نذر من غير تسمية لزمه كفارة يمين لقوله صلى الله عليه وسلم: «من نذر نذرًا وسمى فعليه ما سمى، ومن نذر نذرًا ولم يسم فعليه كفارة يمين» {وما للظالمين} الذين يمنعون الصدقات، أو ينفقون أموالهم في المعاصي، أو للرياء، أو لا يوفون بالنذور، أو ينذرون في المعاصي {من أنصار} ممن ينصرهم من الله ويمنعهم من عقابه. والأنصار جمع ناصر كأصحاب في صاحب، أو جمعٍ نصير كأشراف في شريف. وقد يتمسك المعتزلة بهذا في نفي الشفاعة لأهل الكبائر، فإن الشفيع ناصر. ورد بأن الشفيع في العرف لا يسمى ناصرًا وإلا كان قوله: {ولا هم ينصرون} [البقرة: 48] بعد قوله: {ولا يقبل منها شفاعة} [البقرة: 48] تكرارًا. وأيضًا إن هذا الدليل النافي عام في حق كل الظالمين وفي كل الأوقات، والدليل المثبت للشفاعة خاص في حق البعض وفي بعض الأوقات والخاص مقدم على العام. وأيضا اللفظ لا يكون قاطعًا في الاستغراق بل ظاهرًا على سبيل الظن القوي فصار الدليل ظنيًا والمسألة ليست ظنية فكان التمسك بها ساقطًا. سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدقة السر أفضل أم صدقة العلانية فنزلت: {إن تبدوا الصدقات} والتركيب موضوع للصحة والكمال ومنه فلان صادق المودة وهذا خل صادق الحموضة وصدق فلان في خبر إذا أخبر على وجه الصحة والكمال، ومنه الصداق لأن عقد الصداق به يتم ويكمل، والزكاة صدقة لأن المال بها يصح ويبقى وبها يستدل على صدق العبد وكماله في إيمانه، {فنعما هي} من قرأ بسكون العين فمحمول على أنه أوقع على العين حركة خفيفة على سبيل الاختلاس وإلا لزم التقاء الساكنين على غير حدة، ومثله ما يروى في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن العاص: «نعم المال الصالح للرجل الصالح» بسكون العين. ومن قرأ بكسر النون والعين فلتحصيل المشاكلة، ومن قرأ بفتح النون وكسر العين فعلى الأصل. قال طرفة:
نعم الساعون في الأمر المبر

قال سبيويه: ما في تأويل الشيء أي نعم الشيء هي. وقال أبو علي: الجيد في مثله أن يقال: ما في تأويل شيء لأن ما هاهنا نكرة إذ لو كانت معرفة بقيت بلا صلة. فإن هي مخصوصة بالمدح. فالتقدير: نعم شيئًا إبداء الصدقات. فحذف المضاف للدلالة، أو نعم شيئًا تلك الصدقات، أو تلك الخصلة وهي الإبداء. قال الأكثرون: المراد بها صدقة التطوع لقوله تعالى: {وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} والإخفاء في صدقة التطوع أفضل كما أن الإظهار في الزكاة أفضل أما الأول فلأن ذلك أشق على النفس فيكون أكثر ثوابًا، ولأنه أبعد عن الرياء والسمعة قال صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله من مسمع ولا مراء ولا منان» والمتحدث بصدقته لا شك أنه يطلب السمعة، والمعطي في ملأ من الناس يطلب الرياء، وقد بالغ قوم في الإخفاء واجتهدوا أن لا يعرفهم الآخذ، فبعضهم كان يلقي الصدقة في يد الأعمى، وبعضهم يلقيها في طريق الفقير أو في موضع جلوسه بحيث يراها ولا يرى المعطي، وبعض يشدها في ثوب الفقير وهو نائم، وبعض يوصل إلى الفقير على يد غيره، وقال صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصدقة جهد المقل إلى فقير في سر» وقال أيضًا: «إن العبد ليعمل عملًا في السر فيكتبه الله سرًا، فإن أظهره نقل من السر وكتب في العلانية، فإن تحدث به نقل من السر والعلانية وكتب في الرياء» وقال صلى الله عليه وسلم: «صدقة السر تطفئ غضب الرب» وأيضًا في الإظهار هتك ستر الفقير وإخراجه من حيز التعفف، وربما أنكر الناس على الفقير أخذ تلك الصدقة لظن الاستغناء به فيقع الفقير في المذمة والناس في الغيبة، ولأن في الإظهار إذلالًا للآخذ وإهانة له، وإذلال مؤمن غير جائزة ولأن الصدقة كالهدية، وقال صلى الله عليه وسلم: «من أهدي إليه هدية وعنده قوم فهم شركاء فيها» وربما لا يدفع الفقير إليهم شيئًا فيقع في حيز اللوم والتعنيف.
نعم لو علم أنه إذا أظهرها اقتدى غيره به لم يبعد والحالة هذه أن يكون الإظهار أفضل. وروى ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: «السر أفضل من العلانية والعلانية أفضل لمن أراد الاقتداء» واعلم أن الإنسان إذا أتى بعمل وهو يخفيه عن الخلق وفي نفسه شهوة أن يرى الخلق منه ذلك وهو يدفع تلك الشهوة، فههنا الشيطان يردد عليه ذكر رؤية الخلق والقلب ينكره. فهذا الإنسان في محاربة الشيطان فيكون إخفاؤه يفضل علانيته سبعين ضعفًا كما روي عن ابن عباس: صدقات السر في التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفًا. ثم إن الله تعالى عبادًا راضوا أنفسهم حتى من الله عليهم بأنوار هدايته، وذهبت عنهم وساوس النفس لأن الشهوات قد ماتت منهم ووقعت قلوبهم في بحار عظمة الله فلم يحتاجوا إلى المجاهدة. فإذا أعلنوا بالعمل أرادوا أن يقتدي بهم غيرهم، فهم كاملون في أنفسهم ويسعون في تكميل غيرهم كما قال تعالى: {وممن خلقنا أمة يهدون بالحق} [الأعراف: 181] {واجعلنا للمتقين إمامًا} [الفرقان: 74] فهؤلاء أئمة الهدى وأعلام الدين وسادة الخلق بهم يقتدى في الذهاب إلى الله. وأما أن الإظهار في إعطاء الزكاة أفضل فلأن الله أمر الأئمة بتوجيه السعادة لطلب الزكوات، وفي دفعها إلى السعاة إظهارها، ولأنه ينفي التهمة ولهذا روي أنه صلى الله عليه وسلم كان أكثر صلاته في البيت إلا المكتوبة. وعن ابن عباس: صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفًا. هذا إذا كان المزكي ممن لا يخفى يساره، فإن لم يعرف باليسار كان الإخفاء له أفضل ولاسيما إذا خاف الظلمة أن يطمعوا في ماله. وعن بعضهم أن معنى قوله: {خير لكم} أنه في نفسه خير من الخيرات كما يقال الثريد خير من الأطعمة. وإنما قيل: {وتؤتوها الفقراء} لأن المقصود من بعث المتصدق أن يتحرى موضع الصدقة فيصير عالمًا بالفقراء مميزًا لهم عن غيرهم، فإذا تقدم منه هذا الاستظهار ثم أخفاها حصلت الفضيلة فلهذا شرط في الإخفاء أن يحصل معه إيتاء الفقراء. وأما في الإبداء فقلما يخفى حال الفقير فلهذا لم يصرح بالشرط. {ونكفر عنكم} من قرأ بالنون مرفوعًا فهو عطف على محل ما بعد الفاء، لأن الأصل في الشرط والجزاء أن يكونا فعلين. فإذا وقع الجزاء فعلًا مضارعًا مع الفاء كان خبر مبتدأ محذوف. فقوله: {فهو} في تأويل. فيكون خيرًا لكم {ونكفر} بالرفع عطف عليه، ويحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي ونحن نكفر، وأن يكون جملة من فعل وفاعل مستأنفة. ومن قرأ مجزومًا فهو عطف على محل الفاء وما بعده لأنه جواب الشرط كأنه قيل: وإن تخفوها تكن أعظم أجرًا. وأما من قرأ: {ويكفر} بياء الغيبة مرفوعًا فالإعراب كما مر في النون والضمير لله أو للإخفاء.
وقرئ: {وتكفر} بالتاء مرفوعًا ومجزومًا والضمير للصدقات، وقرأ الحسن بالياء والنصب بإضمار إن ومعناه: وإن تخفوها تكن خيرًا لكم وأن يكفر عنكم خير لكم. والتكفير في اللغة الستر والتغطية ومنه كفر عن يمينه أي ستر ذنب الحنث. وقوله: {من سيئاتكم} يحتمل أن يكون من للتبعيض لأن السيئات كلها لا تكفر وإنما يكفر بعضها، ثم أبهم الكلام في ذلك البعض لأن بيانه كالإغراء على ارتكابها، وأحسن أحوال العبد أن يكون بين الخوف والرجاء. ويحتمل أن يكون للتعليل أي من أجل سيئاتكم كما لو قلت: ضربتك من سوء خلقك أي من أجل ذلك. وقيل: إنها زائدة. {والله بما تعملون خبير} كأنه ندب بهذا الكلام إلى الإخفاء الذي هو أبعد من الرياء.
عن الكلبي أنه قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرة القضاء وكانت معه أسماء بنت أبي بكر، فجاءتها أمها قتيلة وجدتها فسألتاها وهما مشركتان فقالت: لا أعطيكما شيئًا حتى أستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنكما لستما على ديني. فاستأمرته في ذلك فأنزل الله تعالى: {ليس عليك هداهم} فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزولها أن تتصدق عليهما فأعطتهما ووصلتهما. قال الكلبي: ولها وجه آخر، وذلك أن ناسًا من المسلمين كانت لهم قرابة وأصهار ورضاع في اليهود، وكانوا ينفعونهم قبل أن يسلموا. فلما أسلموا كرهوا أن ينفعوهم وراودوهم أن يسلموا واستأمروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت فأعطوهم بعد نزولها. وعن سعيد بن جبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصدقوا إلا على أهل دينكم» فأنزل الله: {ليس عليك هداهم} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تصدقوا على أهل الأديان» وعن بعض العلماء: لو كان شر خلق الله لكان لك ثواب نفقتك. والعلماء أجمعوا على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى غير المسلم فتكون الآية مخصوصة بالتطوع. وجوز أبو حنيفة صرف صدقة الفطر إلى أهل الذمة وأباه غيره، ومعنى الآية ليس عليك هدى من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لأجل أن يدخلوا في الإسلام فتصدق عليهم لوجه الله ولا توقف ذلك على إسلامهم، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان شديد الحرص على إيمانهم فأعلمهم الله تعالى أنه بعث بشيرًا ونذيرًا ودعايًا إلى الله ومبينًا للدلائل فأما كونهم مهتدين فليس ذلك منك ولا بك. فالهدى هاهنا بمعنى الاهتداء، فسواء اهتدوا أو لم يهتدوا فلا تقطع معونتك وبرك وصدقتك عنهم. وفيه وجه آخر ليس عليك أن تلجئهم إلى الاهتداء بواسطة توقيف الصدقة على إيمانهم، فإن مثل هذا الإيمان لا ينتفعون به، بل الإيمان المطلوب منهم هو الإيمان طوعًا واختيارًا {ولكن الله يهدي من يشاء} إثبات للهداية التي نفاها أولًا.
لكن المنفي أولًا هو الهداية أي الاهتداء على سبيل الاختيار فكذا الثاني. ومنه يعلم أن الاهتداء الاختياري واقع بتقدير الله تعالى وتخليقه وتكوينه وهذا التفسير هو المناسب لسبب النزول. وفي الكشاف: أن المعنى لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إلى الانتهاء عما نهوا عنه من المن والأذى والإنفاق من الخبيث وغير ذلك، وما عليك إلا أن تبلغهم النواهي فحسب {ولكن الله يهدي من يشاء} يلطف بمن يعلم أن اللطف ينفع فيه فينتهي عما نهى عنه. ثم ظاهر قوله: {ليس عليك هداهم} إنه خطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم ولكن المراد به هو وأمته، لأن ما قبله عام {إن تبدوا الصدقات} وما بعده عام {وما تنفقوا من خير} من مال {فلأنفسكم} ثوابه فليس يضركم كفرهم أو فلا تمنوا به على الناس ولا تؤذوهم بالتطاول عليهم {وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله} أي لستم في صدقتكم على أقاربكم المشركون تقصدون إلا وجه الله من صلة رحم أو سد خلة مضطر، قد علم الله هذا من قلوبكم. وقيل: خبر في معنى نهي أي لا تنفقوا إلا لله، وقيل: معناه لا تكونوا منفقين مستحقين لهذا الاسم المفيد للمدح حتى تبتغوا وجه الله، وقيل: ليست نفقتكم إلا لطلب ما عند الله فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث الذي لا يوجه مثله إلى الله؟ وفائدة إقحام الوجه أنك إذا قلت فعلته لوجه زيد كان أشرف من قولك فعلته له، لأن وجه الشيء أشرف ما فيه، ثم كثر حتى عبر به عن الشرف مطلقًا. وأيضًا قول القائل: فعلت هذا الفعل له احتمل الشركة وأن يكون قد فعله لأجله ولغيره، أما إذا قال فعلت لوجهه فلا يحتمل الشركة عرفًا {وما تنفقوا من خير يوف إليكم} جزاؤه في الآخرة أضعافًا مضاعفة، وإنما حسن قوله: {إليكم} مع التوفية لأنها تضمنت معنى التأدية {وأنتم لا تظلمون} لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئًا.
ثم لما بيّن أنه يجوز صرف الصدقة إلى أي فقير كان، أراد أن يبين أن اشد الناس استحقاقًا من هو فقال: {للفقراء} أي ذلك الإنفاق لهؤلاء الفقراء كما لو تقدم ذكر رجل فتقول: عاقل لبيب أي ذلك الذي مر وصفه عاقل لبيب، وقيل: اعمدوا للفقراء أو أجلوا ما تنفقون للفقراء، أو المراد صدقاتكم للفقراء. قيل: نزلت في فقراء المهاجرين وكانوا نحو أربعمائة رجل وهم أصحاب الصفة، لم يكن لهم سكن ولا عشائر بالمدينة، كانوا ملازمين للمسجد يتعلمون القرآن ويصومون ويخرجون في كل غزوة، فمن كان عنده فضل أتاهم به إذا أمسى. وعن ابن عباس: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا على أصحاب الصفة فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم فقال: «أبشروا يا أصحاب الصفة فمن بقي من أمتي على النعت الذي أنتم عليه راضيًا بما فيه فإنه من رفقائي».
ثم إنه تعالى وصف هؤلاء الفقراء بخمس صفات: الأولى قوله: {الذين أحصروا في سبيل الله} أي حصروا أنفسهم ووقفوا على الجهاد في سبيل الله لأن سبيل الله مختص بالجهاد في عرف القرآن، ولأن وجوب الجهاد في ذلك الزمان كان آكد فكانت الحاجة إلى من يحبس نفسه للمجاهدة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد، فموضع الصدق فيهم يكون أوقع سدًا لخلتهم وتقوية لقلوبهم وإعلاء لمعالم الدين. وعن سعيد بن المسيب واختاره الكسائي، أن هؤلاء قوم أصابتهم جراحات في الغزوات فأحصرهم المرض والزمانة، وعن ابن عباس: هؤلاء قوم من المهاجرين حبسهم الفقر عن الجهاد فعذرهم الله. الثانية {لا يستطعيون ضربًا في الأرض} أي سيرًا فيها وذلك إما لاشتغالهم بالعبادة أو بالجهاد فلا يفرغون للكسب والتجارة، وإما لأن خوفهم من الأعداء يمنعهم من السفر، وإما لأن مرضهم وعجزهم يمنعهم منه. الثالثة {يحسبهم} يظنهم {الجاهل} بحالهم ومن لم يخبر أمرهم {أغنياء من التعفف} من أجل تركهم المسألة وإظهارهم التجمل تكلفًا منهم. والتعفف إظهاء العفة وهي ترك الشيء والكف عنه. الرابعة {تعرفهم} أي أنت يا محمد أو كل راء {بسيماهم} والسيما والسيمياء العلامة التي يعرف بها الشيء من السمة العلامة فوزنه عفلى قال مجاهد: سيماهم التخشع والتواضع. الربيع والسدي: أثر الجهد من الجوع والفقر. الضحاك: صفرة ألوانهم من الجوع. أبو زيد: رثاثة ثيابهم. وقيل: المهابة في العيون. وقيل: آثار الفكر. روي أنه صلى الله عليه وسلم كان كثير الفكر. الخامسة {لا يسألون الناس إلحافًا} أي إلحاحًا وهو اللزوم وأن لا يفارق إلا بشيء يعطى له. والتركيب يدل على الستر كأنه لزم المسؤول لزوم الساتر للمستور. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب الحي الحليم المتعفف ويبغض البذيء السآل الملحف» قيل: معنى الآية أنهم إن سألوا سألوا بتلطف ولم يلحفوا، وأورد عليه أنه ينافي التعفف الذي وصفوا به قبل. فالوجه أن يراد نفي السؤال والإلحاف جميعًا كقوله: ولا ترى الضب بها يتجحر أي لا ضب ولا انجحار ليكون موافقًا لوصفهم بالتعفف. وفائدة الكلام التنبيه على سوء طريقة الملحف كما إذا حضر عندك رجلان أحدهما عاقل وقور والآخر طياش خفيف وأردت أن تمدح أحدهما وتذم الآخر قلت: فلان رجل عاقل وقور قليل الكلام ليس بخواض ولا مهذار. لم يكن غرضك من قولك: ليس خواض ولا مهذار وصفه بذلك لأن ما تقدم من الأوصاف الحسنة يغني عنه، بل غرضك التنبيه على سوء طريقة الثاني. وقيل: معناه لا يتركون السؤال إلا بإلحاح شديد منهم على أنفسهم لشدة حاجتهم كقوله:
ولي نفس أقول لها إذا ما ** تنازعني لعلي أو عساني

وقيل: إن عدم السؤال بطريق الإلحاف يتضمن نفي السؤال عنهم رأسًا لأن كل سائل فلابد أن يلح في بعض الأوقات كأنه يقول: إذا أرقت ماء وجهي فلا أرجع بغير مقصود. وقيل: لعل الساكت عن السؤال يطهر من نفسه أمارات الحاجة فيكون في حال سكوته أنطق ما يكون فترق القلوب له، فالمراد أنهم وإن سكتوا عن السؤال لكنهم لا يضمون إلى ذلك السؤال من رثاثة الحال وآثار الانكسار ما يقوم مقام السؤال فإن ذلك نوع إلحاف، بل يتجملون للخلق بحيث لا يطلع على سرهم غير الخالق. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يفتح أحد باب مسألةٍ إلا فتح الله عليه باب فقر ومن يستغن يغنه الله ومن استعف يعفه الله» «لأن يأخذ أحدكم حبلًا يحتطب به فيبيعه بمد من تمر خير له من أن يسأل الناس» {وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم} فيه أن ثواب هذا الإنفاق الذي هو أعظم المصارف لا يكتنه كنهه فلذلك وكل إلى علم الله تعالى بخلاف الآية المتقدمة فإنه لما رغب في التصدق على أهل الأديان قال في آخره {وما تنفقوا من خير يوف إليكم} كما لو قال السلطان لعبده الذي حسن عنده موقع خدمته: إني بحسن خدمتك عالم ولحقك عارف. كان أبلغ مما لو قال: إن أجرك واصل إليك. ثم أرشد في خاتمة الآيات إلى أكمل وجوه الإنفاقات بقوله: {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار} الآية. وذلك أن الذين يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة يكون ذلك منهم دليلًا على الحرص البالغ والاهتمام التام كلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ولم يؤخروه متعللين بوقت وحال. والباء بمعنى في أي في الليل والنهار و{سرًا وعلانية} منصوبان على الظرفية أيضًا أي في أوقات السر والعلن، أو على وصف المصدر أي إنفاقًا سرًا وعلانية، أو على الحال لكونه بيانًا عن كيفية الإنفاق، وقيل: لما نزل: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله} بعث عبد الرحمن بن عوف بدنانير إلى أصحاب الصفة وبعث عليّ بوسق من تمر ليلًا فنزلت الآية. وفي تقديم ذكر الليل وتقديم السر على العلانية دليل على أن صدقة علي رضي الله عنه كانت أكمل. وعن ابن عباس: ما كان علي رضي الله عنه يملك إلا أربعة دراهم فتصدق بدرهم نهارًا وبدرهم ليلًا وبدرهم سرًا وبدرهم علانية فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما حملك على هذا؟ فقال: أن استوجب ما وعد لي ربي. فقال: ذلك لك ونزلت الآية. وقيل: نزلت في أبي بكر حين تصدق بأربعين ألف دينار، عشرة بالليل، وعشرة بالنهار، وعشرة في السر، وعشرة في العلانية.
وقيل: في علف الخيل وارتباطها في سبيل الله. وكان أبو هريرة إذا مر بفرس سمين قرأ هذه الآية والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. اهـ.